الأربعاء، 17 ديسمبر 2008

مغالطات

رشيد نيني

يستحق الصحافي العراقي الذي «شير» بفردتي حذائه «نمرة 44» باتجاه الرئيس الأمريكي جورج بوش المنتهية ولايته أن يكون «صحافي السنة» في العالم العربي. فهو لم يدخل التاريخ فحسب وإنما أدخل أيضا جنسا جديدا إلى عالم الصحافة. وهذا الجنس الصحافي الجديد يقتضي أن يلقي الصحافي بحذائه على الضيف عوض أن يلقي عليه أسئلته.
والواقع أن الصحافي العراقي لم يفعل غير الانتقام لكل العراقيين والعرب والمسلمين، وحتى الأمريكيين، الذين تمنوا في يوم من الأيام رمي جورج بوش بفردة حذاء جزاء له على كل الحروب التي أشعلها في تلابيب الكرة الأرضية قبل أن يغادر البيت الأبيض الذي دخله الرجل الأسود.
فقمة السخافة والاستفزاز والضحك على الذقون هي أن يعترف بوش قبل أسبوع في واشنطن بأن حرب العراق كانت خطأ، ثم يأتي إلى بغداد لكي يلقي نظرة الوداع على الخراب العظيم الذي «سهر» على إنجازه بسبب إصراره على الخطأ.
وبسبب ما قام به هذا الصحافي العراقي سيصبح حكام أمريكا مجبرين على فرض احتياطات جديدة على حضور الصحافيين العرب للقاءاتهم. وهكذا سيصبح نزع الأحذية ووضعها أمام الباب شرطا ضروريا لدخول قاعات الندوات الصحافية، مع كتابة تحذير أمام الباب كذلك الذي نقرؤه في المساجد «حرصا على سلامتك، ضع حذاءك أمام الباب قبل الدخول».
والظاهر أن الصحافي لم يتمالك أعصابه وهو يستمع إلى جورج بوش يتحدث عن جلبه الحرية للعراقيين بينما هم اليوم أكثر عبودية من السابق. فقرر أن يغير هذا المنكر، ولو بحذائه، وذلك أضعف الإيمان.
والإنسان يستطيع أن يتحمل النفاق، لكنه لا يستطيع أن يتحمل التضليل. خصوصا إذا كان التضليل يراد منه تغليط شعب وأمة بكاملها.
في الدول الديمقراطية يعتبر تغليط الرأي العام جريمة تؤدي بصاحبها إلى المحاكمة أو الإقالة على أقل تقدير. وفي كثير من الندوات الصحافية التي تنظم في المغرب لا يستحق فقط منظموها أن تلقي عليهم الأسئلة وإنما الأحذية كما فعل صديقنا الصحافي العراقي. فهم يغالطون الرأي العام دون أن يرف لهم جفن، وينتظرون من الصحافيين أن «يغطوا» هذه المغالطات وينشروها بين قرائهم.
وأخطر من مغالطة الرأي العام هناك إخفاء المعلومات عن الرأي العام. وسوف أعطيكم بعض الأمثلة على هذه الهواية المغربية لكي تفهموا أن صحة وسلامة المواطنين هي آخر ما يهم من يديرون أمورنا.
منذ عهد يونس معمر، المدير السابق للمكتب الوطني للكهرباء، ووزارة الطاقة تهلل لمصابيح «فيليبس» الاقتصادية التي سيعوض بها المصابيح القديمة. وكل ما ركزت عليه حملة وزارة الطاقة الإعلامية هو أن هذه المصابيح ستوفر على المغرب مصاريف زائدة كانت تأكلها المصابيح القديمة بشراهة. لكن ما تخفيه وزارة الطاقة على المواطنين هو أن هذه المصابيح المتقشفة على مستوى استهلاك الطاقة لديها ثلاثة سلبيات. أولاها أن المصابيح الجديدة يجب أن تكون بعيدة عن المستهلك لأنها تحدث طنينا مزعجا، وثانيا فهذا الأمر غير ممكن لأن نور المصباح الجديد ضعيف مقارنة بالسابق ولذلك يجب أن يكون قريبا من المستهلك. أما ثالث وأخطر مشكل تتكتم حوله وزارة الطاقة فهو أنه في حالة تحطم المصباح فإن مكوناته الزئبقية تنتشر في الهواء وتهدد صحة المستهلك مباشرة. وقد أثبتت دراسة حديثة في فرنسا نشرها «مركز الأبحاث والمعلومات المستقل حول الإشعاعات المغناطيسية» أن مكونات المصباح الزئبقية تتسبب لمستنشقيها في أمراض سرطانية.
وفي نشرة أخبار إحدى القنوات الفرنسية العمومية، جاء ممثل عن شركة الكهرباء حاملا معه مصباحين، واحد من الصنف القديم وآخر من الصنف الجديد، وشرح للرأي العام في دقيقة ونصف ماذا سيربحون وماذا سيخسرون إذا ما غيروا مصابيحهم. وقد شرح مبعوث الشركة المخاطر التي سيتعرض لها المستهلكون بصراحة، وكشف لهم بدون عقد أنه في حالة تكسر المصباح الجديد فعليهم أن يجمعوا شظاياه بالقفازات وأن يفتحوا النوافذ على الفور حتى يخرج الهواء المشبع بالزئبق.
أما عندنا في المغرب فعندما اتصلنا بالمكتب الوطني للكهرباء لكي نأخذ رأيه في نتائج هذه الدراسة الحديثة، كان هناك من أخبرنا بأن المكلفة بهذا الملف في عطلة.
وهذا الجواب طبعا يعكس بوضوح درجة اهتمام المكتب بالصحة العامة للمواطنين. فبالنسبة إليهم في المكتب الوطني للكهرباء على المواطنين أن يغيروا مصابيحهم وكفى، فليس من حقهم أن يعرفوا تأثير هذا التغيير على صحتهم وصحة أبنائهم.
وقبل سنة من اندلاع قضية الرصاص في الطاجين المغربي، لم يكن أحد يتحدث عن هذا الموضوع. فقط عندما منعت كندا استيراد الطواجين المغربية بسبب نسبة الرصاص الزائدة فيها على الحد، خرجت وزارة الصحة عن صمتها وأخضعت الطواجن للتحليل، واعترفت فعلا بأن الطلاء الذي يستعمله صناع الطاجين هو سبب المشكل. وربما تكون وزارة الصناعة التقليدية قد فرضت على صناع الطواجين الموجهة نحو التصدير احترام شروط الصحة والسلامة العالمية، غير أن الطواجين المخصصة للاستهلاك المحلي لازالت كما هي، مغطاة بنفس الطلاء (الفيرني) المسبب لأمراض مزمنة بسبب نسبة الرصاص المرتفعة في مكوناته.
والظاهر أن ما يهم بعض الوزارات عندنا هو صحة المستهلك الأوربي وليس المستهلك المحلي. فالأسواق الأوربية تفرض على كل من يريد دخولها احترام القوانين المعمول بها عالميا في مجال السلامة. وهذا ما يفسر لجوء وزارة الفلاحة والصيد البحري إلى نشر إعلان عن طلبات عروض لإنجاز دراسة حول نسبة الرصاص في السردين المعلب المصدر إلى الخارج.
ومنذ عشرات السنين والمغاربة يأكلون «باط» السردين دون أن يكون هناك من ينبههم إلى أن هناك نسبة من الرصاص لا يجب أن تتجاوزها كل علبة. ولم تنتبه وزارة الفلاحة والصيد البحري إلى نسبة الرصاص إلا بعدما تلقت تنبيها من الاتحاد الأوربي بضرورة احترام هذه النسبة للبقاء في السوق.
فما يهم في المقام الأول هو صحة المستهلك الأوربي وراحة باله. وعلى ذكر راحة البال، فقد كانت وزارة الداخلية على عهد إدريس البصري تحذر جمعيات الأطباء من الحديث حول وجود السيدا في المغرب حتى لا يهرب السياح. فالمهم في نظر وزارة الداخلية هو مداخيل السياحة بالعملة الصعبة أما وجود السيدا أو «الجايحة الكحلة» في المغرب فلا يهم في شيء.
وقبل شهر اندلعت في فرنسا قضية «المصاعد المشعة»، التي تحمل علامة «أوتيس»، ونشرت «الوكالة الفرنسية من أجل الأمن الإشعاعي» دراسة علمية تثبت أن أزرار مصاعد هذه الشركة تصدر إشعاعات قد يكون لها تأثير سلبي على صحة مستعمليها. وبدأت الشركة في فرنسا بسحب العينة المقصودة من السوق.
في المغرب لم نسمع أي مسؤول من وزارة الصحة أو وزارة الطاقة يظهر في وسائل الإعلام العمومية لكي يطمئن مستعملي مصاعد شركة «أوتيس» على سلامتهم. خصوصا وأن شركة «أوتيس» تستحوذ على مجمل سوق المصاعد في المغرب. مع العلم بأن فرع الشركة بالمغرب توصل بمراسلة من فرنسا تسأله فيها هل تم ترويج هذه العينة من المصاعد في المغرب.
إخفاء الحقائق عن الرأي العام لا يتعلق فقط بالقضايا التي تمس صحتهم العامة، وإنما حتى القضايا التي تمس مستقبل الشعب. وقد رأينا كيف تبارى كل من وزير المالية والوزير المكلف بالأمانة العامة للحكومة في تكذيب خبر وصول الأزمة العالمية إلى المغرب. رغم أن الجميع يرى كيف أن عائدات السياحة تراجعت، كما تراجعت الاستثمارات الأجنبية المباشرة بنسبة 17 في المائة.
وبما أننا بدأنا بالحديث حول الصحافة دعونا ننهيه بالصحافة أيضا. وبالضبط بتلك القصاصة التي عممتها وكالة المغرب العربي للأنباء بخصوص رفعي لدعوى قضائية ضد زيان بتهمة السب والقذف بواسطة الصحافة. فقد كتبت الوكالة قائلة بأن المقال الذي تسبب في الدعوى عنوانه «ثقافة الحقيقة، قال فيه زيان بالخصوص إن المسلم لا يكذب.
وهكذا فالوكالة الرسمية تركت كل السب والقذف الذي يحفل به مقال زيان في حقي، وحاولت أن تغالط الرأي العام وتقنعه بأنني أقاضيه بسبب قوله أن المسلم لا يكذب. وحتى نطلع الرأي العام على سبب الدعوى القضائية التي رفعناها ضد زيان، ونميط اللثام عن الجمل التي أغفلت الوكالة الرسمية ذكرها سننشر الجمل التي بسببها لجأنا إلى القضاء ضد زيان. فقد كتب سيادة النقيب قائلا «أظن أنه إذا كان هناك من نضال ينبغي القيام به، هو النضال من أجل قول الحقيقة ونشرها وفرضها، أما أن توجد لدينا صحف تتميز بالقذف والسب واللعن والتأويل والكذب والتزوير والتلاسن والتعنت مثلما هو الأمر بالنسبة إلى يومية «المساء» التي يديرها رجل فضل «التسلكيط» عوض حرية الصحافة، فهذا أمر يندى له الجبين».
بسبب هذه الشتائم المنحطة إذن لجأنا إلى القضاء، وليس بسبب حكاية «المسلم الذي لا يكذب» كما حاولت أن تروج الوكالة لمغالطة الرأي العام.

ليست هناك تعليقات:

أرشيف المدونة الإلكترونية