الاثنين، 1 ديسمبر 2008

اللي دوا يرعف

رشيد نيني


تستحق وزارة الداخلية أن تنال جائزة أسرع جهاز حكومي يستجيب لطلب الوزير الأول الذي تقدم به للمصالح الوزارية والمؤسسات العمومية لكي تشرع في إعداد برامج للاحتفال بالذكرى الستين للإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
ولم تكتف مصالح وزارة الداخلية في الدار البيضاء بإعداد برنامج للاحتفال بهذه الذكرى العالمية وإنما بدأت في «الفيشطا» مسبقة العرس بليلة، واختارت كمكان لهذا الاحتفال حيا يحمل اسما مليئا بالدلالات، وهو حي «العهد الجديد» ببنمسيك.
فيبدو أن أصابع الداخلية تأكلها أكثر من اللازم، ولذلك لم تستطع تحمل انتظار وصول الذكرى الستين للإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وأطلقت أيدي رجالها في أجساد سكان حي «العهد الجديد» الذين خرجوا يحتجون على نصب إحدى شركات الاتصال للاقط هوائي فوق رؤوسهم.
وهكذا فعلى بعد ستين سنة، إلا أسبوعا، من صدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والذي من بين بنوده الحق في التعبير عن الاحتجاج، لازال المغرب يمنع حفنة من المواطنين من حقهم في التعبير عن احتجاجهم على غرس لاقط هوائي فوق رؤوسهم. ومع ذلك يستعد المغرب، بدون عقد، للاحتفال إلى جانب الدول الديمقراطية بهذه المناسبة الحقوقية العالمية.
ونقترح على مفوضية الأمم المتحدة بالرباط أن تنقل تفاصيل هذا الاحتفال الذي أنجزته وزارة الداخلية في حي «العهد الجديد» إلى مقرها بنيويورك، حتى تسجله لحساب المغرب وتجربته الحقوقية الرائدة.
ولعل من «مفخرة» هذا البرنامج الاحتفالي في «العهد الجديد» أنه برهن بالملموس، أي بالهراوة، على أن المساواة في المغرب لم تعد شعارا فقط وإنما أضحت واقعا. مرا طبعا. وإذا كان المغاربة ليسوا سواسية أمام القانون فإنهم على الأقل سواسية أمام الهراوة. فقد شملت حملة الضرب والركل والصفع التي «سهر» عليها رجال الداخلية في «العهد الجديد» مواطنين تتراوح أعمارهم بين خمسة أشهر و88 سنة.
وهذه إحدى منجزات «العهد الجديد» التي سيحتفظ له بها التاريخ الحقوقي إلى الأبد. فعلى بعد أسبوع من تخليد المغرب للذكرى الستين للإعلان العالمي لحقوق الإنسان، تحرم وزارة الداخلية مواطنا في الثامنة والثمانين من عمره من حقه في المشي والحركة، بعد أن كسرت حوضه وأقعدته الفراش.
وعلى بعد أسبوع من تخليد المغرب للذكرى الستين للإعلان العالمي لحقوق الإنسان، تتسبب وزارة الداخلية لرضيع في خدوش بعد أن انتزعه أحد رجالها من حضن والدته ورماه أرضا.
وعلى بعد أسبوع من تخليد المغرب للذكرى الستين للإعلان العالمي لحقوق الإنسان، تتعمد قوات الأمن إصابة سكان «العهد الجديد» في رؤوسهم وأجهزتهم التناسلية.
عندما قرأت أن الهاتف النقال يمكنه أن يؤثر على خصوبة الرجال، قلت مع نفسي أن الرجال عندنا يجب أن يحذروا أحذية قوات الأمن أكثر مما يجب أن يحذروا الصحون اللاقطة لشبكة الهاتف المحمول. لأن أحذية هؤلاء هي من سيقضي ليس فقط على خصوبتهم وإنما على رجولتهم أيضا.
وفي كل تدخلات قوات الأمن في العالم نلاحظ أن الهدف الرئيسي يكون هو حماية المتظاهرين المسالمين من مثيري الشغب. وعندما تتطور الأمور نحو الأسوأ يصبح الهدف هو تفريق المتظاهرين، ويكون ذلك أولا بخراطيم المياه تجنبا للاصطدام المباشر. إلا عندنا نحن، فالأمن لا يفرق بين وقفة سلمية أو غير سلمية، فالهدف الأول والأخير من تدخلات قوات الأمن هو إرسال أكبر عدد منهم إلى المستعجلات، عملا بقاعدة «اللي دوا يرعف». ولذلك يركزون ضرباتهم على الأعضاء التناسلية والرأس والكبد والكليتين وعظام الساقين والحوض والعمود الفقري. فالهدف الرئيسي ليس هو تفريق المتظاهرين وإنما «فلعصتهم» كما ينبغي، حتى تضمن الداخلية على الأقل غياب هؤلاء «المفلعصين» عن وجهها لأشهر بسبب انشغالهم بتكميد عظامهم وتجبيرها.
ولم تكتف قوات الأمن في «العهد الجديد» بتوزيع قمعها بالتساوي على الجميع رضعا ومراهقين وشيوخا رجالا ونساء، وإنما قامت باعتقال اثني عشر مواطنا وقدمتهم للتحقيق قبل أن تخلي سبيلهم في ساعة متأخرة من الليل، بينما تم الإبقاء على أحد أعضاء المجلس الاتحادي الوطني، والذي سيحاكم بتهمة ممارسة حقه في التعبير عن الاحتجاج، والذي ينص عليه الميثاق العالمي لحقوق الإنسان الذي بالمناسبة يستعد المغرب للاحتفال به هذه الأيام. اللهم إذا كان هؤلاء المواطنون الذين تم «بغجهم» في «العهد الجديد» لا يدخلون في خانة الإنسان الذي تتحدث عنه الأمم المتحدة في إعلانها العالمي.
ومن يدري، فمن كثرة ما سمعنا بعضهم يصف صنفا من المغاربة بالدبان والبخوش أصبحنا حائرين في معرفة الأصل الذي ينحدر منه بعضنا.
والواقع أن الراضي وزير العدل كان محقا عندما قال قبل أمس في بيروت أمام وزراء العدل العرب أن أحد أهم عناصر إصلاح القضاء الذي شرع المغرب فيه هو إصلاح المحكمة. ومع أن الراضي عندما قال هذا الكلام كان كتاب الضبط في محاكمه يضربون عن العمل احتجاجا على ظروفهم المهنية. ورغم ذلك فمعه حق، فقد أصبح الواحد في عهد الراضي ينزل إلى الشارع للتعبير عن احتجاجه في الصباح فيجد نفسه في المساء أمام المحكمة بعينين منفوختين متابعا بتهمة الإخلال بالأمن العام والتحريض على الشغب. وهذه سرعة، والحق يقال، لم نعهدها في محاكم المملكة على عهد وزراء العدل السابقين.
وقد أصبح واضحا في «العهد الجديد» أن المحاكم تشتغل بسرعة عندما يتعلق الأمر بتأديب «المشاغبين» الذين يتجرؤون على فتح أفواههم خارج عيادات أطباء الأسنان. وتصاب بالشلل عندما يتعلق الأمر بالنظر في مظالم الناس العادية.
أما الأمن فدوره ليس حماية المواطنين وإنما حماية الدولة من احتجاجات المواطنين. وقد رأينا كيف وصلت الهراوة قبل «المانطة» إلى المناطق التي ضربتها الفيضانات، وكيف أكل المنكوبون الذين سخنت عليهم رؤوسهم «العمود» قبل أن يأكلوا «البيسكوي».
وهكذا بعد كل هذه الخطوات التي قام بها «العهد الجديد» للقطع مع أساليب الماضي في التعامل مع المواطنين والانخراط في بناء مغرب الديمقراطية، نرى اليوم كيف يتم التراجع إلى الخلف بسرعة مريعة.
إلى درجة أن خروج حفنة من المواطنين في حيهم للاحتجاج على غرس لاقط هوائي فوق رؤوسهم أصبح يستنفر أجهزة الأمن بكل أنواعها للتباري فيما بينها على من يستطيع عطب أكبر عدد من الأطفال والشيوخ والنساء.
إن ما وقع في «العهد الجديد» بحي بنمسيك بالدار البيضاء، يطرح سؤالا كبيرا على عباس الفاسي الذي يتحمل كوزير أول المسؤولية السياسية لما وقع. خصوصا وأنه راسل قبل أسبوع وزيره في الداخلية يطلب منه أن يقدم برنامجه الخاص بالاحتفال بالذكرى الستين للإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
فهل بانتزاع الرضع من أحضان أمهاتهم ورميهم في الشارع، وتكسير أحواض الشيوخ، وتكسير أذرع النساء وضربهن في بطونهن، وضرب الرجال في أجهزتهم التناسلية، يريد شكيب بنموسى أن يخلد في المغرب هذه الذكرى الستينية للإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
إن السبب الرئيسي في نزول المواطنين إلى الشوارع للتعبير عن احتجاجهم هو غياب المؤسسات التمثيلية وخيانتها للأمانة التي ألقاها المواطنون على عاتقها لتمثيلهم والدفاع عن مصالحهم في المجالس المنتخبة.
فالبرلمان الذي من المفروض فيه أن ينقل احتجاجات المواطنين ومشاكلهم وتظلماتهم إلى الحكومة، أصبح ثلثا أعضائه لا يكلفون أنفسهم حتى مشقة الحضور للمشاركة في التصويت على القوانين الأساسية للبلاد.
وبالأمس غاب ثلثا الأعضاء عن التصويت على قانون المالية، واليوم لم يصوت على قانون مدونة الانتخابات سوى 73 برلمانيا من أصل 325.
إذا كان المواطنون سيجدون أنفسهم بعد ثلاث وخمسين سنة من الاستقلال مضطرين للنزول إلى الشوارع للدفاع عن حقوقهم، فما جدوى وجود برلمان ومجالس منتخبة إذن.
الأحسن لبرلمان مثل هذا أن يحله الملك وننتهي من هذه المهزلة، لأن برلمانا بهذا الشكل لا يساهم في تقدم المغرب وإنما في تخلفه والاستهتار بمستقبله وسلمه الاجتماعي.
أما مهزلة استعداد الحكومة للاحتفال بالذكرى الستين للإعلان العالمي لحقوق الإنسان، فنتمنى أن يكون للحكومة ما يكفي من احترام للمغاربة لكي تلغي هذه الاحتفالات من أجندتها بعد كل الهمجية التي وقعت في «العهد الجديد». بالدار البيضاء طبعا.

ليست هناك تعليقات:

أرشيف المدونة الإلكترونية