الأحد، 30 نوفمبر 2008

بِينَاتْهُمْ

رشيد نيني



من المفارقات العجيبة أنه في الوقت الذي تتحدث فيه وزارة الأسرة والتضامن عن تشديد القوانين الزجرية ضد ممارسي العنف ضد المرأة، وإصدار قانون يشبه قانون الإرهاب في صرامته، نرى كيف توقع ياسمينة بادو وزيرة الصحة، ووزيرة الأسرة والتضامن في حكومة جطو، قرار توقيف رواتب أكثر من ثمانين طبيبة أياما قليلة قبل حلول عيد الأضحى. والسبب حسب الوزيرة هو أن هؤلاء الطبيبات يرفضن الالتحاق بمقرات عملهن في المناطق التي حددتها لهن الوزارة. ومهما يكن السبب فقطع الأرزاق لم يكن أبدا طريقة حضارية في الحوار بين الوزارات وموظفيها. فحتى البرلمان لم يقطع رواتب مستشاري الأموي في الغرفة الثانية، رغم أن هؤلاء قدموا استقالاتهم من المجلس، وظلوا يتلقون رواتبهم إلى اليوم.
إن قطع رواتب الطبيبات من طرف الوزيرة الاستقلالية أياما قليلة قبل العيد، يكشف عن الوجه اللاشعبي لهذه الحكومة التي يقودها وزير أول يفضل ترك الحوار الاجتماعي جانبا والذهاب في رحلات حول العالم رفقة زوجته، على حساب أموال دافعي الضرائب.
ويبدو أن عباس الفاسي سيكتشف كم هو محظوظ وهو يتابع من «السويت» الذي نزل فيها بفندقه بهانوي المتظاهرين في التايلاند المجاورة للفيتنام وهم يحتلون المطار الرئيسي ويطالبون باستقالة رئيس الحكومة التايلاندية. ففي المغرب لا أحد يطالب عباس الفاسي بالاستقالة من الحكومة، بل فقط بترك أموال دافعي الضرائب فالتيقار، وأن «يشد لرض» قليلا، لأن كل هذه التنقلات والرحلات حول العالم تكلف خزينة الدولة أموالا طائلة. وحتى الدكاترة المعطلون عندما احتلوا مقر حزب الاستقلال بالرباط لم يطالبوا برأس عباس الفاسي وإنما طالبوا فقط بأن يفي الحزب بوعده الذي قطعه على نفسه خلال الحملة الانتخابية بتشغيل عشرات الآلاف من العاطلين عن العمل.
وعوض أن يفي عباس بوعده، كلف عمال البناء بتعلية سور مقر الحزب وتزيينه بأسنة الحديد «المشنقرة» حتى يصد أي محاولة لاقتحام المقر العتيد.
والغريب في رحلات الوزير الأول أنها تتبع مسار رحلات ابن بطوطة، وتختار دائما الوجهة الأكثر بعدا عن المغرب. فبقدر ما تبعد المسافة بقدر ما يرتفع التعويض عن السفر. وإذا كان الحديث الشريف يقول اطلبوا العلم ولو في الصين، فإن وزراء عباس، وهو على رأسهم يعملون بقاعدة «أطلبوا التعويض ولو في الصين».
وإذا كان عباس ذهب إلى الفيتنام التي لا تجمعنا بها سوى علاقات اقتصادية بسيطة جدا لا تكاد ترى أرقام معاملاتها سوى بالمجهر، فإن ست وزارات بأسرها جاءت إلى ميناء الدار البيضاء قبل يومين لاستقبال خردة من الصين عبارة عن أجهزة «دي في دي» و«في سي دي» ومولدات كهرباء وتلفزيونات «بلازما» وغيرها من «القش» الإلكتروني «مايد إن تشاينا» التي تصدقت به الصين على المغرب.
ولم تذهب الوزارات الست وحدها لاستقبال هذه الصدقة، بل ذهب أيضا إلى جانبها والي الدار البيضاء وعمال الجهة والمنتخبون والسلطات المحلية. ولو جمعنا تعويضات التنقل التي سيأخذها كل هؤلاء المسؤولين نهاية الشهر مقابل حضورهم لتسلم هذه الصدقة، وضربناها في عددهم وعدد الكيلومترات التي قطعوها من دواوينهم إلى غاية الميناء، لاكتشفنا ربما أن مبلغ هذه التعويضات سيوازي قيمة الصدقة التي ذهبوا لتسلمها.
ولذلك فقد كان أحسن لمالية الدولة أن يذهب وزير واحد أو عامل واحد أو الوالي أو كاتب الدولة لدى وزير الداخلية، لتسلم هذه الصدقة، وتوفير مصاريف وتعويضات تنقل المسؤولين الآخرين لما هو أجدى.
ومن المفارقات العجيبة أيضا في المغرب، أنه في الوقت الذي يتحدث فيه الجميع عن تخليق الحياة السياسية، نكتشف كيف أن الأحزاب التي يفترض فيها أن تعطي المثال في التخليق تفضل أن تعطي صورة معاكسة تماما لما تدافع عنه في صحفها الحزبية.
ولعل حزب الاستقلال الذي يقود الحكومة يعطي مثالا «ساطعا» على هذه الازدواجية العجيبة. فالوزير الأول الذي يقود سفينة الحزب الذي طالب منذ 1964 بسن قانون «من أين لك هذا»، يقبل سنة 2008 بتطبيق هذا القانون، مع إعفاء زوجات المسؤولين وأبنائهم غير الراشدين من الخضوع لهذا القانون. وكأنه يقول للوزراء والبرلمانيين والقضاة وكل من يشملهم هذا القانون أنه ليس بإمكانهم تسجيل ممتلكات أثناء ممارستهم للمسؤولية في أسمائهم، لكن يجوز لهم تسجيل ذلك في أسماء زوجاتهم وأبنائهم الصغار، حتى إذا غادروا كراسي المسؤولية يمكنهم استعادة ممتلكاتهم. طبعا إذا لم تكن الزوجة قد «خلعته» عند القاضي وذهبت بالجمل وما حمل.
وحزب الاستقلال الذي يستعد ممثله في فاس، العمدة شباط، للاستيلاء على «نقابة الأندلسي»، لم يسأل قط عمدته من أين له كل هذا النعيم الذي يغرق في خيره. مع العلم أن الجميع في حزب الاستقلال يعلم تاريخ الرجل، والحالة التي نزل بها من جبال «البرانس» إلى فاس أول مرة.
وإذا كان حزب الاستقلال لا يسأل «مناضليه» من أين لهم هذا، فكيف يسمح لنفسه بمطالبة الآخرين بذلك. وقد كان على عباس أن يسأل على الأقل عبد الحق التازي، رئيس فريق التعادلية في مجلس المستشارين لماذا يتهرب من دفع الضرائب التي تراكمت عليه، إلى الحد الذي جعل مدير الضرائب بنسودة يصدر قرارا بالحجز على راتبه في مجلس المستشارين.
في الأحزاب الديمقراطية التي تحترم نفسها يعتبر التهرب الضريبي لأحد مناضليها جريمة يستحق عليها الفصل من الحزب وتقديم الاستقالة من العمل السياسي. فما بالك بمناضل حزبي يتهرب من دفع ضرائبه يقود فريقا للمستشارين في الغرفة الثانية، ويستعد لترشيح نفسه لرئاسة هذه الغرفة. أليست هذه أم المهازل.
مهازل حزب الاستقلال لا تتوقف عند تهرب أعضائه من دفع الضرائب، بل تتعداه إلى متابعة بعض أعضائه بتهمة تبديد المال العام. وما كدنا ننسى متابعة المستشار الاستقلالي يوسف التازي، ابن عبد الحق التازي، بتهمة تبديد المال العام في الملف الذي يتابع فيه «المجاهد» (في المال العام) عبد الرزاق أفيلال، حتى رأينا كيف قرر قاضي التحقيق بالمحكمة الابتدائية بمكناس متابعة رئيس المجلس البلدي لكلميمة، الاستقلالي إدريس عماني، بتهمة تبديد المال العام هو الآخر.
نتمنى فقط أن لا يتقدم دفاع رئيس المجلس البلدي بملف طبي هو أيضا، مثلما صنع «المجاهد» أفيلال، يبين فيه بالسكانير الدامغ والأشعة القاطعة أنه يعاني من مشاكل نفسية تجعل متابعته أمام القضاء أمرا متعذرا. وما ذلك على حزب الاستقلال، الذي توجد وزارة الصحة بين يديه، بعزيز.
إن الذين يتهمون الصحافة المستقلة بتبخيس العمل السياسي والحزبي، يجب أن يفهموا أن أكبر من يبخس العمل السياسي والحزبي في المغرب هي الأحزاب نفسها. وعندما يسمح حزب الاستقلال لزعمائه وممثليه في الغرفة الثانية وفي الجماعات المحلية بجرجرة سمعة الحزب أمام القضاء بتهم لها علاقة بتبديد المال العام والتهرب الضريبي، فإنه يعطي عن الحزب الذي يقود الحكومة صورة لا تبعث على الأمان.
أما شقيقه في «الكتلة التاريخية» الاتحاد الاشتراكي، فيصنع وكأنه لم يسمع بفضيحة عليوة، أحد «مناضليه» القدامى، الذي باع لنفسه شقة في ملكية القرض العقاري والسياحي الذي يديره بعد أن انتزعها من صاحبها، بثمن أقل بكثير من ثمنها الحقيقي في السوق. وعندما سألوه من أين لك هذا يا عليوة، قال لهم أنه معين بظهير ولا أحد من حقه محاسبته غير الملك.
وعوض أن تنشر جريدة الحزب خبرا حول الموضوع فضلت أن تنشر لمرات متتالية إعلانا مدفوع الأجر للقرض العقاري والسياحي يخبر عموم القراء والزبائن بإصدار بنك عليوة لبطاقة بنكية جديدة تحمل اسم «بيناتنا».
إن اسم هذه البطاقة يستحق في الحقيقة أن يكون عنوانا لمرحلة سياسية كاملة يعيشها المغرب اليوم. كل شيء يتم «غير بيناتهم»، أما الشعب فيتفرج عليهم يقسمون الكعكة فيما بينهم، ومن شدة شراهتهم حتى الفتات لم يعودوا يتركونه للشعب كما في السابق.

ليست هناك تعليقات:

أرشيف المدونة الإلكترونية